الثلاثاء، 14 مارس 2017

(11)

(11 )
مر يوم الأربعاء ولم يتصل بي أحد!! هل رسبت! ؟
في صباح اليوم التالى كنت في طريقي إلى المجلس الثقافي البريطانى لأجل كورس اللغة الانجليزية الذي التحقت به منذ أسبوعين حين قررت فجأة أن أغير طريقي واذهب  إلى المعهد لاستطلاع نتيجة الاختبارين.
لم أكن أعلم أنها نتيجة اختبار واحد واننى سبق ونجحت في الاختبار الأول.
كانت الأفكار تتقاذفنى طوال الطريق إلى شارع الهرم. هل رسبت؟ هل قال عنى أساتذة السينما انى جاهلة فقيرة الخيال وأسلوبى سئ ولغتى فجة ؟
لماذا لم يكلمنى أحد ؟
وأعود واعنف نفسي... لماذا أنت مستاءة ؟ ألم تكن لعبة؟ نزوة جديدة ككل النزوات في حياتك كنزوة دراسة الطيران وتعلم اللغة الهندية؟  هل تعتقدين حقا انه يمكنك الالتحاق بالمعهد ؟ هل سيوافق ابوك؟  بالطبع لن يوافق  كما لم يوافق على دراستك الطيران
افيقي من سباتك. .. ربما تستطيعين خوض الاختبارات وعيش الحلم وخداع والدك لأسبوع أو لأسبوعين لكنك لن تستطيعي ذلك لأربع سنوات !!
كان  لا أحد يعلم أننى تقدمت للمعهد سوى امى وشقيقى الأوسط. وحتى تلك اللحظة كنت أعلم جيدا انه مجرد حلم ولن يكتمل.
وصلت إلى ناصية ويمبي الشهيرة وأخذت طريقي إلى المعهد.
في الشارع صادفت فتاة شقراء كانت تختبر معى في نفس اللجنة. سألتها بلهفة: ماالاخبار؟ فردت على بخيبة أمل : لقد رسبت.
أكملت طريقي وانا واجمة فإذا كانت مثل هذه الغيداء الفاتنة التى تصلح نجمة سينمائية قد رسبت فأننى قد رسبت انا الأخرى بالتأكيد.
بلغت المعهد فوجدت بواباته مغلقة عدا باب غرفة صغيرة ملحقة بالسور كانت تستخدم كغرفة للسويتش. 
دخلت الغرفة فوجدت عامل السويتش جالسا يتحدث في التليفون فسألته عن النتيجة فدفع لى بزوج من أوراق الفلوسكاب المملوءة بالأسماء دون تمييز للأقسام.
مررت اصبعي على الأسطر سريعا ثم أعدت الأوراق إلى العامل وانا اهز رأسي بخيبة أمل.
أسمى غير موجود...
أعاد لى العامل الأوراق مرة أخرى وهو يقول : ابحثي مرة أخرى.
سحبت الأوراق ومررت اصبعي مرة أخرى ثم قلت له بضيق غير موجود. وهممت بالانصراف لكنه أنهى مكالمته واستوقفني بعناد ويقين قائلا: ما اسمك؟
شعرت بالخجل من إيمانه بنجاحى أكثر من ايمانى انا به واعدت البحث بنفسي.  لكنى هذه المرة بحثت عن أسمى انا ..فدوى.. وليس أسمى الرابع الذي لم يكن مكتوبا في النتيجة فقد اكتفى المعهد بأسمى الثلاثي.
حتى الآن لا اجد مبررا لعدم بحثي عن أسمى النادر بطبيعته منذ المرة الأولى. هل كنت اتمنى الرسوب والفشل في اللاوعى حتى لا استكمل الحلم الذي لن يتحقق؟   هل كنت أرى نفسي بلا موهبة حقيقية وكنت أريد أن انتهى من الأمر سريعا قبل أن تصفعنى هذه الحقيقة بكل قسوة؟  حتى الأن لا أعلم السبب وربما مت قبل أن أفهم لماذا لم ابحث عنى حقا بين الأسماء.
كان أسمى مختبئا في منتصف الصفحة الأولى. قلت للعامل وانا غير مصدقة: تصدق أن أسمى موجود!! فرد على بظفر : كنت متأكدا من ذلك. رفعت عيني ونظرت أليه باستغراب ثم منحته نفحة مالية كبيرة جدا بمقياس ايامها لقاء إيمانه بي الذي لا املكه  ثم سألته: ماذا على فعله الآن ؟ فقال لى : عليك حضور الورشة الابداعية يوم السبت في تمام التاسعة صباحا وأضاف محذرا: ولكن لا تتأخرى فالدكتور شوقي لا يحب من يتأخر.  
لم أكن أعرف معنى الورشة الإبداعية ولا من يكون الدكتور شوقي الذي يتحدث عنه بكل هذا الاجلال والواقع اننى لم أشغل بالى ساعتها بالبحث عن الاجابات لأننى ولأول مرة لم أكن اطأ بقدمى الأرض. ..لقد كنت أطير.

(10)

(10 )
كان يوم الاثنين التالى يوما مختلفا. ليس لأن موعد الاختبار هذه المرة كان في العاشرة صباحا. وليس لأنه كان اليوم المحدد لاختبار التذوق السينمائي. ولكن لأنه اليوم الذي بدأت فيه في التأقلم مع من يعيشون نفس التجربة.
كان الأمر اضطراريا في البداية حيث إننى اضطررت إلى سؤال أقرب زميل لى حين وجدت الجميع يتجهون إلى خارج مبنى المعهد : إلى أين نحن ذاهبون؟
كانت هناك محاولة لإجراء الاختبار في قاعة سيد درويش الشهيرة لكن المحاولة فيما يبدو باءت بالفشل وعدنا جميعا إلى حديقة المعهد بعد بضع دقائق .
نعم عدنا ولكننا لم نكن نفس الأشخاص الذين كانوا منذ اقل من ربع ساعة فلقد بدأنا في التعارف وتبادل النظرات والابتسامات وتجاذب أطراف الحديث بل وتبادل المعلومات حول كيفية الإجابة عن الاختبار الذي يوشك ان يبدأ سواء بالشرح أو بقراءة بعض فقرات من أوراق مطبوعة  علمت فيما بعد أنها تسمى نشرات السينما.
استعرت من أحد الزملاء أحدى تلك النشرات وقرأت بعض فقراتها بفضول. واسقط في يدى فالكلام المكتوب شديد التعقيد ويبالغ في تحليل توظيف التقنيات السينمائية بأسلوب لم أقرأه من قبل. وأخذت أتساءل أهكذا يريدون منا ان نجيب في هذا الاختبار ؟ وإذا كان هذا هو المطلوب فما الذي سيقوم المعهد بتعليمنا اياه على مدى أربع سنوات إن كان يشترط في المتقدم أن يجيد كتابة مثل هذا التحليل !؟
مرت ربع ساعة قبل أن يتم النداء علينا لدخول قاعات العرض بعد إعداد الفيلم للعرض. دخلنا القاعة وتم ترتيب جلوسنا في قاعتين.  كان عددنا كبيرا لايمكن أن تستوعبه القاعتين وبناء عليه فقد تم صف كراسي خشبية في الممر المجاور للحائط وكنت أنا من ضمن من جلسوا على هذه المقاعد.
أعلن المراقبون انهم لن يمنحونا اوراقا لأخذ ملاحظات وان علينا الإجابة من الذاكرة.  سرت بعض الهمهمات التى لم أفهم سببها ساعتها.
وبدأ الفيلم.. وعلت شفتى في الظلام ابتسامة عريضة. فالفيلم مأخوذ عن رواية بعنوان وراء الشمس لحسن محسب وكنت قد انتهيت من قراءتها منذ اقل من شهر.
كنت من الناس الذين يستمتعون أيما استمتاع بالمشاهدة في دار العرض فقد قضيت طفولتى في دار العرض المجاورة لمسكنى حتى أن خالى كان يروى لى أنه كان يأتى بي حين اظل ابكى بلا سبب إلى باب دار السينما ويقف يحادث فنى آلة العرض وهو يحملنى بينما أتأمل انا الشاشة العملاقة من بعيد فأتوقف فورا عن البكاء واهدأ تماما.
انتهى الفيلم ولم أخرج من حالة الاستمتاع. عدنا إلى لجنة الاختبار التى كنا فيها منذ يومين.
أعلن المراقبون أن الزمن ساعة واحدة وان المطلوب كتابة صفحتين لا اكثر عن الفيلم من الذاكرة.  سرت الهمهمات التى لم أعلم لها سببا مرة أخرى.
تلفت حولى باحثة عن صاحب القلم فلم اجده  وبقي القلم امامى ينتظر صاحبه دون طائل. لم أفهم ساعتها لماذا لم يحضر ذلك الطالب . لم أفهم انه رسب في الامتحان السابق ونجحت انا.
أمسكت بالقلم وكتبت ما استطعت تذكره وقارنت بين الفيلم والرواية ثم سلمت كراسة الإجابة ومضيت بعدما تبادلت الابتسامات والتحيات مع الأصدقاء الجدد الذين وعدونى بأن يبلغونى بنتيجتى فور اعلانها. هذا الوعد الذي لم يتحقق ابدا !!
ا

(9)

(9 )
ككل الوعود التى وعدت بها نفسي ولم أف بها. ..لم افتح مذكرات الرصيف ولم اقرأ مابها. 
قضيت الصباح مع صديقتى الطبيبة نتذكر أيام بيت طالبات تحسين الصحة حيث كنا نسكن والشقة المفروشة التى سكنا فيها لبضعة اشهر بعدما بدأت الإجازة الصيفية. لم نترك صديقة ولا صديقا لم نأت على ذكره حتى اقترب موعد الاختبار فكان على أن أذهب .
ودعتنى صديقتى لدى الباب وهى تقول باستياء: لم تذاكري فهززت كتفي باستهانة قائلة وايه يعنى!  يعنى هايسحبوا منى البكالوريوس!
هناك... في المعهد... وقفنا في الخارج في الحديقة حتى نادوا على قسم السيناريو ثم صعدوا بنا إلى قاعة مشمسة متسعة فكانت لجنة اختبارنا .
حين وزعوا ورق الأسئلة لم أصدق عيني. كانت الورقة خالية تماما من تلك الأسئلة الساذجة التى توقعتها.  كان الاختبار مؤلفا من ثلاثة أسئلة كل سؤال مكون من ثلاثة أسئلة نختار منها سؤالا واحدا فقط. كان سبعة من الأسئلة أسئلة إبداعية وسؤال واحد ترتيب لقطات وآخر معلومات عامة عن نجيب محفوظ وصلاح أبو سيف وعلى بدرخان.
كان سؤال المعلومات العامة سؤالا بائسا من وجهة نظرى فلم اختره واخترت سؤالين ابداعيين وسؤال ترتيب اللقطات .
لم يعلمنى أحد من قبل كيف ارتب لقطات لكنى وجدت السؤال شديد السهولة بالنسبة لى فبدأت به. ثم استغرقت في السؤالين الآخرين. وفجأة.. فرغ القلم الذي اكتب به من الحبر.
رفعت رأسي وطلبت استعارة قلم فاقترب منى أحد الأساتذة ونظر إلى بضيق شديد وهو يتأمل حجابي وقال: جاية تمتحنى امتحان ابداعى بقلم فاضي!!!
امتحان ابداعى!! لم أفهم مايعنيه الاستاذ!!
الغريب اننى لم يفرغ لي قلم قط والواقع اننى كنت اتخلص من أقلامى بفعل الملل منها لا اكثر هذا بالاضافة الى ان اخر عهدى بالاقلام الجافة والحبر كان منذ أيام اختبارات الثانوية العامة فنحن في كلية الهندسة نستخدم الأقلام الرصاص. أما هذا القلم فقد أخذته من درج مكتب والدى لانى كما قلت لا امتلك أقلاما من هذا النوع.
في النهاية اعارنى طالب لم يكتب كلمة في كراسة إجابته قلما جافا من نوع بيك وفي المقابل غششته سؤال المعلومات العامة الذي لم اختره.
مر الوقت واعلن المراقبون انتهاء الثلاث ساعات المخصصة للامتحان حين كنت اكتب اخر جملة في نهاية سؤالى الثالث.
تنفست الصعداء واسرعت إلى الخارج فورائي سفر ولا يمكننى التأخر.
في السيارة اكتشفت أننى لم أعد القلم لصاحبه.  لم اهتم وقلت لنفسي ساعيده بعد غد عندما يحين موعد ذلك الاختبار الثانى.
لم أكن أعلم أننى لن أرى ذلك الطالب مرة أخرى.  والشئ الأهم أننى لم أعلم حينها ولا لسنوات عديدة تالية أن هذا الاختبار الذي انتهيت منه لتوى هو تصفية اولى وان هناك إعلان نتيجة في الغد. لم أعلم هذا كله ولم إذهب في ذلك الغد لاستطلاع النتيجة ومعرفة هل نجحت ام لا!

(8)

(8 )
مر أسبوع على ذلك السبت الحار. اسبوع نسيت فيه الأمر برمته.  المعهد واختبارات القبول والاستعداد لتلك الامتحانات.  لم تكن المرة الاولى التى ابدأ فيها شيئا ولا اتمه.  سبق والتحقت بدورة لتعلم عزف الأورج وأخرى للحاسب الالى وسددت مصروفاتهما ولم إذهب! !!
وهكذا نسيت الأمر ككل مرة. نسيته ولم اتذكره حتى ليلة السبت . كانت ليلة خطبة اثنين من أعز أصدقائي.  كنا جميعا -جميع أفراد عصابة هندسة الزقازيق- نحضر حفل الخطبة في مدينة بلبيس حين تذكرت فجأة وألقيت بالمفاجأة.  لدى اختبار غدا.
صمت الجميع والتفتوا نحوى بدهشة فأكملت في معهد السينما.
نظر الجميع إلى نظرة أشبه بنظرة موظفات شئون طلاب المعهد المندهشة لكنهم لم يعلقوا واعتبروها إحدى لحظات جنونى المعتادة وعادوا إلى طقوس الحفل الذي نحضره.
عدت إلى المنزل ليلتها وانا لا أدري ماذا أفعل.  لدى صداع شديد والملازم الدراسية الساذجة في مكانها على طاولة الزينة حيث ألقيت بها السبت الماضى. في النهاية فضلت أن انام على أن أتصفح الملازم في طريقي إلى القاهرة أو عند صديقتى ساكنة شارع الهرم التى سأزورها في الغد قبل موعد الاختبار في الواحدة.
سألت نفسي قبل أن اغيب في النوم ماذا لو رسبت في الاختبار؟ ؟ ؟ ؟

(7)

(7 )
كان السبت الأول من شهر سبتمبر يوما حارا كأيام أغسطس.  وصلت المعهد في الحادية عشر صباحا تقريبا لاقدم اوراقي للقبول بالمعهد.
لم أكن أملك صورا شخصية بالمقاس المطلوب فما كان منى إلا أن أخذت صورا بحجم أكبر للاستوديو الوحيد في طريقى الذي لم يكن مغلقا وقلت لصاحبه العجوز الذي كان شاردا يتأمل ميدان رمسيس المزدحم بالمارة: قص لى هذه الصور مقاس 4 في 6.
في المعهد وقفت أمام صف الشبابيك القديمة التى تم طمسها منذ عدة سنوات واستبدالها بصف آخر  على الحائط المقابل. تأملت موظفة شئون الطلبة شهادة تخرجى باهتمام يغلب عليه الدهشة ثم قالت : خريجة هندسة!!رددت بالإيجاب فما كان منها إلا ان نادت زميلاتها المتراصات أمام صف النوافذ قائلة : الحقوا.. خريجة هندسة ! توجهت نحوى جميع العيون تتأملننى وكأنى كائن فضائي . ثم سألتنى إحداهن: لأي الأقسام ستتقدمين؟ فاجبت: سيناريو، فعلت وجوههن جميعا علامات الارتياح وقالت إحداهن : مثل د.القليوبي هو أيضا خريج هندسة.
لم أكن سمعت من قبل عن د.القليوبي رحمه الله ولكن قلبي اطمأن لوجود مهندس له علاقة ما لا اعلمها بعد بقسم السيناريو.
بعد سنوات عديدة من هذا اليوم قالت لى نفس الموظفة التى تسلمت منى ملف التقديم بعدما صارت رئيسة شئون الطلاب بالمعهد أنها راهنت زميلاتها جميعا أننى سأصبح أستاذة بالمعهد يوما ما .
انتحيت جانبا كى املأ بياناتى في ملف التقديم . كنت أريد الانتهاء سريعا من الأمر والعودة إلى بلدتى قبل العصر.
اقترب منى شخص غريب وأخذ يتأملنى ثم تجرأ وسألنى : لأي قسم ستتقدمين ؟ أجبته دون أن ارفع عينى عن الملف: سيناريو .
لم أكن بالشخصية التى تجفل من الغرباء لكن شيئا ما نفرنى  من هذا الشخص  . مع ذلك أصر ذلك الشخص  على تقديم نفسه وعرض خدماته: انا فلان الفلاني خريج قسم الإخراج وبامكانى ان اساعدك في الالتحاق بالمعهد. رفعت عينى بضيق شديد وقلت له: لا أحتاج إلى مساعدة وعدت لما أفعله. سألنى بتحد: هل تعرفين كيف تحللين فيلما؟
كان سؤالا منطقيا من قبله لكن رد فعلى ساعتها كان أغرب من أن يحكمه منطق حيث رفعت حاجبي مستنكرة: انا خريجة هندسة!! فرد على بسخرية : وماعلاقة الهندسة بتحليل الافلام ؟!
تأففت من إلحاحه وسألته: وماذا تريد؟ فقال: يمكنك أن تأخذي رقم هاتفي وان احتجت أن اشرح لك فأنا في الخدمة.
كنت أريد أن أتخلص منه بأي طريقة ومن ثم أخذت رقم هاتفه وانا أعلم جيدا أننى لن اتصل به ثم اتجهت الى الشباك وسلمت الملف إلى الموظفة التى رفعت إلى عينين متسائلتين بعدما فحصت الملف : هذه أصول! !! نحن لانحتاج الى اصول.. يكفينا صور . تلفت حولى بحيرة ثم قلت: اعتبريها صور .
خرجت وفي يدى رقم الجلوس .. كنت قد كففت منذ زمن بعيد عن استخراج أرقام الجلوس أثناء دراستى بالكلية وكنت اكتفي بإيصال سداد المصروفات . لكن  رقم الجلوس هذا كان به شئ عجيب. كان بلا صورة!! .. مجرد ورقة كرتون خضراء عليها الاسم والرقم واسم القسم والمعهد!
في الشارع امام المعهد كان باعة الملازم الدراسية الخاصة باختبارات القبول يفترشون الرصيف. اقتربت من احدهم واشتريت كل مايعرض  من ملازم لجميع الأقسام !
كانت المعلومات التى تحويها الملازم شديدة السذاجة بالنسبة لى .. عجائب الدنيا السبعة وقصص حياة السينمائيين وتاريخ اشهر الاستوديوهات السينمائية !
ماهذا الهراء! ؟ أهذا ماسيختبروننى فيه؟ إن أغلب هذه المعلومات اعرفها منذ الطفولة كجزء من ثقافتى العامة فكيف تكون معيارا للحكم على كونى أصلح كاتبة أم لا!؟
حشرت الملازم في حقيبتي وشردت بعيدا أتأمل الطريق الزراعى المتجه إلى بلدتى وانا أسأل نفسي ماذا أريد من وراء هذه المغامرة؟

(6)

(6 )
يقولون عنى أننى عنيدة لا ايأس لذا فلم يكن غريبا على وقوفي امام شباك شئون الخريجين في كليتى في تمام التاسعة صباحا في اليوم التالى.
ابتسم الموظف في وجهى وقال لى لقد انتهيت من شهاداتك وانهيت لك كل اخلاءات الطرف عدا إخلاء طرف مكتبة الكلية ستذهبين بنفسك لعمله.
هززت رأسي غير مصدقة ثم تساءلت ولكن كيف وانا لم اشتر طوابع التمغة ولا جئتك بالايصالات!!
فقال الموظف مبتسما استعرت لك بعض الطوابع من زملائك أعتقد انهم لن يغضبوا.
توجهت إلى مقر المكتبة وانا مذهولة. . من يكون هذا الرجل ؟ ولماذا يساعدنى ؟ هل يتوقع منى رشوة ؟ وهل سأدفع رشوة لأول مرة في حياتى!؟
دخلت المكتبة ودفعت  بورقة إخلاء طرفي إلى إحدى أمينات المكتية التى تأملتنى بعينين ثاقبتين ثم قالت لى الست انت من جاءت منذ عدة سنوات وسألت أن كانت المكتبة تحوى روايات ؟ ثم انفجرت في الضحك هى وزميلتها.  شعرت بالحرج الشديد وتساءلت كيف تتذكرين هذا الأمر وقد مر عليه أكثر من 5  سنوات فقالت لى كيف أنسى وهو أمر لم يحدث من قبل!؟
عدت إلى الموظف بإخلاء طرف المكتبة فقال لى استأذنك في مبلغ جنيه واحد قيمة إخلاء طرفك من بنك ناصر فأنت لم تدفعى المبلغ حين طلبناه منذ عدة أشهر.  أخرجت الجنيه وانا أتساءل بشك وإخلاء الطرف؟ فقال لى لقد قمنا به نيابة عنك.
سألته ماذا تبقي قال تبقي أن تفتح الخزينة أبوابها إذهبى إلى وكيل الكلية لشئون الخريجين واشكى له عدم وجود دفاتر ايصالات.
فعلت ماطلب ولأول مرة في حياتى دخلت مكتب أحد الأساتذة الكبار في الكلية. كنت خائفة ولا أدري اليوم سبب خوفي لكن الغريب أن وكيل الكلية كان غاية في اللطف واتصل بالمخازن من اجلى ووبخهم لعدم وجود ايصالات .
فتشجعت قليلا وسألته هل العميد موجود اليوم ؟ فقال لى لا العميد لايحضر ابدا يوم الخميس.
نزل على الخبر كالصاعقة. .. إذا لن أستطيع اللحاق بآخر يوم في التقديم. كيف يمكن أن أتى إلى هنا يوم السبت لتوقيع الشهادة ثم أستطيع الوصول الى القاهرة قبل انتهاء ساعات العمل ؟ مستحيل.
عدت إلى موظف شئون الخريجين اجرجر قدمى سألنى ماذا قال لك الوكيل ؟ قلت له سيأتون بالدفاتر لكن... لكن العميد غير موجود.
ابتسم الرجل ابتسامة لطيفة وقال لى العميد يأتى كل خميس من الباب الخلفي في تمام الثانية لتوقيع الاوراق ... لا تخافي.
وفعلا... صدق الرجل... فتحت الخزينة أبوابها ودفعت مصروفات استخراج الشهادات وأعاد الموظف لزملائي مااستعاره من طوابع  ووقع العميد شهاداتى قبل شهادات الجميع وحصلت على شهاداتى في زمن لايزيد عن 26 ساعة.... والاغرب أننى لم ادفع رشوة!!

(5)

(5)
شهادتك غير موجودة.
لم أصدق جملة موظف شئون الخريجين بكلية الهندسة بجامعة الزقازيق الذي لم أره من قبل ...كيف لاتكون موجودة ألم أنجح! ؟ ألم اتخرج ؟!
هل يمكنك البحث مرة اخرى؟
أعاد الموظف البحث في كومة الشهادات المؤقتة ثم نظر إلى قائلا :غير موجودة... ثم فكر قليلا وسألنى متى قدمتى طلبا لاستخراجها؟
نظرت إليه بدهشة. .. طلب استخراج!!!! أليست كشهادة الابتدائية والاعدادية والثانوية نجدها جاهزة في انتظارنا متى شئنا!!
تساءلت كم يستغرق استخراج الشهادة ؟
نزلت على الإجابة كالصاعقة... 15 يوما.
هززت رأسي بيأس وقلت انتهى الامر.
لكن الغريب أن الموظف لم يتركنى اذهب لحال سبيلى بل سألنى من اين انت؟ قلت له من ميت غمر. فقال لى بهدوء لو استطعت إحضار صورك الشخصية ومصروفات استخراج الشهادات قبل الساعة الثانية عشر سأستخرجها لك.
نظرت اليه بعدم تصديق فابتسم قائلا بتحد هل تستطيعين؟
كانت الساعة تقترب من العاشرة والنصف وامامى 90 دقيقة فقط على فيها ان أسافر من الزقازيق إلى بلدتى ميت غمر وأعود بالمطلوب.
لم أضع ثانية اتجهت إلى المحطة واتفقت مع سائق سيارة الميكروباص المتجهة إلى بلدتى ستوصلنى إلى منزلى وأعود معك وسأدفع لك ماتطلبه.
كانت صفقة رابحة  للسائق الذي يعود عادة بسيارته دون ركاب ولم يكن شرط العودة قبل الثانية عشر عليه بالعسير.
كانت السيارة تنهب الطريق الضيق عائدة الى الزقازيق في سباق مع عقارب ساعتى التى اقتربت من الثانية عشر إلا ثلثا ....
كنت أمسك بمظروف صوري الشخصية ومصروفات استخراج الشهادات وانا أتساءل هل سيصدق ذلك الشخص الذي لم أره من قبل في وعده؟
وفي تمام الثانية عشر إلا عشر دقائق رآني أمام شباكه ومعى كل ماطلب فهز رأسه مستحسنا وقال سأستخرجها لك لكن هناك مشكلة لاتوجد ايصالات والخزينة مغلقة عودى في الغد...!!

(4)

(4 )
كان مختلفا.... هذا أقل مايمكن أن يوصف به المعهد العالى للسينما... مبنى ذو تصميم معماري مريح للنفس.. متماثل حول المحور الرأسي. فمايوجد على اليمين يوجد توأمه على اليسار بدءا من السلم وانتهاء بالقاعات والغرف ودورات المياه.. مبنى تدخله الشمس طوال اليوم في مقابل ظلمة ذلك الممر الذي أتى منه موظف المعهد العالى للفنون المسرحية المتبرم. .وفوق كل هذا وذاك.. كان خلية نحل نشطة. .. لم أعرف يومها سبب الازدحام لكن أعجبتنى الحياة والحيوية التى تغلف المكان... نعم كان مختلفا.
لا أذكر كيف توغلت في المكان لكن كل ما أتذكره انى صعدت على سلم تزينه ثلاث لوحات صغيرة تمثل شخصيات كارتونية من اعلانات تليفزيونية شهيرة رافقت طفولتى وطالما قالت لى امى عنها أن مشيتها المسرعة القافزة تشبه مشيتى..!! كانت تضحك وتقول يبدو أننى كنت اتوحم فيك على شخصيات عبد العليم.. نعم كانت ثلاث لوحات بريشة د.عبد العليم زكي استاذ الرسوم المتحركة بالمعهد.
صعدت السلالم فرحة وقد أسرت قلبي اللوحات الثلاث والذكرى التى تصاحبها. .. سألت فقادونى إلى غرفة مكتب مدير مكتب عميد المعهد الذي انبهر يومها بفكرة انى مهندسة. واستبقانى فترة يتحدث معى مقترحا أن يجعلنى ادخل للقاء العميد شخصيا!!
عميد المعهد !!! كانت الفكرة يومها براقة ومخيفة في نفس الوقت فالعميد في مؤسساتنا التعليمية لايقابل كل من هب ودب.  بل لايقابل طلبة  مؤسسته انفسهم بسهولة!!  لكن أ.محمد عبد القوى مدير مكتب العميد في تلك الآونة لم يكن يرى في هذا الأمر أي مشكلة!!
في النهاية .. لم اقابل العميد لأنه كان مشغولا ولكنى قابلت امينة المعهد.
كانت الحاجة زينب امينة المعهد في تلك الفترة سيدة لطيفة قصيرة القامة ممتلئة و.... محجبة. وقفت أمامها أسأل نفس الاسئلة التى سبق وسألتها.  هل لديكم دراسات حرة؟.. كانت الإجابة هى نفس إجابة موظف معهد الفنون المسرحية.. لا.. هل يمكننى الالتحاق بالدراسات العليا ؟ هذه المرة كانت الإجابة بنعم!!
سألتها عن المستندات المطلوبة فاجابت ثم صمت لبرهة وسألتها بأي الأقسام سألتحق؟ قالت لى بقسم هندسة المناظر طبعا فقلت لها بضيق ومن قال لك انى أريد الالتحاق به في الأساس!! ردت اذا فماهو القسم الذي تريدين الالتحاق به؟ فسألت سؤالا يبدو لى اليوم مفرطا في الغرابة ..كان سؤالى ماهى الأقسام الموجودة لديكم؟ والاغرب أنها اجابتنى بصبر وعددت لى أقسام المعهد. كان ردى ممكن قسم سيناريو فعلقت السيدة اللطيفة التى أدين لصبرها وحلمها بكل ما أنا عليه الآن .. كيف الحقك بالدراسات العليا بقسم السيناريو وانت خريجة هندسة ولم تدرسي يوما فيه. رددت بخجل لديك كل الحق.  وصمت لبرهة ثم سألت سؤالا لا أدري حتى اليوم كيف قفز إلى ذهنى... هل يمكننى الالتحاق بالمعهد من البداية ؟  فقالت لى اذا كان عمرك أقل من 26 عاما فأنت مستوفية للشروط.
لم أكن أعلم ساعتها أن سبب الإزدحام هو أن باب القبول مفتوح وان هؤلاء الذين يجعلون المكان خلية نحل هم أما طلبة أو أولياء أمور. .. كانت الصدفة الأغرب أن اطأ باب المعهد قبل غلق باب القبول بأربعة ايام من ضمنها يوم جمعة!!.... نعم ..انه القدر.
سألت امينة المعهد هل تحتاجون شهادة الثانوية العامة فقالت لى لا بل نريد شهادة بكالوريوس الهندسة.
خرجت من باب المعهد وأنا لست تلك التى دخلت منذ نصف ساعة مضت. خرجت إلى الشارع وتطلعت امامى كانت عدة نسخ من افيش قديم لفيلم "اللون القرمزي" تزين حوائط دار سينما قديمة مغلقة تواجه باب المعهد... عرفت الأفيش على الفور ولكنى رغم ذلك تساءلت هل يمكنهم قبولى؟!!